كان مخاض المحكمة صعبا، وكان السؤال الأساس كيف يمكن أن نرتقي إلى مستوى عشرات آلاف الأطفال الذين قتلوا أو أصيبوا أو شردوا في عملية “الإبادة الجماعية” التي لم يُخف كبار المسؤولين الإسرائيليين النية والعزم على القيام بها في غزة، ولم يخف أيضا بايدن-بلينكن والكونغرس الأمريكي نيتهم وفعلتهم عبر تقديم ما يمكن من سلاح وعتاد ومال، للهدم والقتل والتشريد لشعب بأسره تحت غطاء أكذوبة القرن الواحد والعشرين الأكثر دناءة وتوحشا: “الحرب على الإرهاب”.
عدد من المشاركات والمشاركين معنا اليوم، كان في بعثات تحقيق في أفغانستان والعراق وفلسطين. ورصد الفظائع التي ارتكبت باسم تقسيم العالم إلى عالم للخير وآخر للشر، إلى بلدان يحق لها الغزو وانتهاك القوانين الدولية واحتقار بل ومحاسبة مؤسسات العدالة الدولية والتنصب فوق الحساب والعقاب، وبلدان وشعوب أخرى تحاسب وتعاقب وتحاصر لأنها ترفض الخضوع لنظام دولي جائر. وعدد كبير منكم أيضا وقف ويستمر في الوقوف احتجاجا على الأبواب الموصدة أمام محاسبة الجناة.
منذ أكثر من 15 عاما، والكثير منكم يجمع الأدلة ويعد المرافعات أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، ومنذ الأيام الأولى كانت العقبات والعوائق تفبرك الواحدة تلو الأخرى لإبقاء نظام الأبارتايد الإسرائيلي فوق المحاسبة. وكم من مرة تحول السفير الأمريكي في هذه الدولة أو تلك، بل حتى الرئيس الأمريكي نفسه، إلى محامي دفاع عن المجرمين الإسرائيليين…
إن كل مراقب موضوعي لما يحدث، يدرك عمق ما قاله جيمس بول، أهم المحققين في تركيب ووظيفة مجلس الأمن: “في مواصلتي دراسة أنثروبولوجيا مجلس الأمن، أدركت مدى العنف الذي يمارسه هذا المجلس الذي تقوده الولايات المتحدة في إدارة العالم، ومدى إهماله في الوفاء بمسؤوليته عن السلام والأمن الدوليين. إن الأزمات لها أسباب معقدة وغالبا ما تكون نتائجها بعيدة المدى وغير متوقعة، لكن عمل المجلس كان يستند عادة إلى مفاهيم ضحلة ومهملة للصورة الكبيرة، مفاهيم مدفوعة بمصالح جغرافية استراتيجية ومصالح تجارية”. كانت الخطيئة الأصلية في تنصيب مجلس الأمن سيدا للسلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية للأمم المتحدة، أي جعله الدكتاتورية الوحيدة التي لا يحق لأحد انتقادها أو مناقشة صلاحياتها الهائلة.
ما اكتشفه مواطنو العالم الأحرار والمجتمع المدني العالمي، هو أنهم سلطة مضادة وطاقة مؤثرة وفاعلة يصعب السيطرة عليها، ورغم مليارات الدولارات التي دفعت لشراء أو احتواء بعض المنظمات غير الحكومية وتأطير وتوظيف من هو قابل للانصياع منها، فقد فشلت كل وسائل السيطرة والإفساد في النيل منهم، لذا لا نستغرب البتة، أن يجري تصنيفهم من قبل مجرمي الحرب العنصريين على لوائح الإرهاب، بل واتهامهم بمعاداة السامية، هم الذين اجتمعوا ساميين وغير ساميين، من كل القارات، لحمل راية العدالة والسلام في وجه التوحش.
إن أحد أكثر مشاعر الاعتزاز التي نحملها، هي وجودكم ومشاركتكم هذا المشروع الكبير، أنتم، الجيل القادم الذي يباشر حمل راية العدالة ومناهضة الظلم، ولا نخفيكم أننا في اللجنة التحضيرية كنا في قمة السعادة بمعرفة الوسط العمري والقدرات الفكرية والحقوقية للمشاركات والمشاركين، وكيف أن مقعد إدغار موران ونعوم شومسكي وريتشارد فولك وجيمس بول ومحمد حافظ يعقوب وتطول القائمة، لن يكون شاغرا غدا.
المهمات الملقاة على عاتقنا جميعا كبيرة، ولكن الأمل يحذونا بأن اجتماع كل الطاقات الواعدة، من أجل خوض معركة العقل والعدل لأسمى قضية في سجل البشرية اليوم: القضية الفلسطينية، سيعطي ثمرا مفيدا للبشرية، في هذه المراحل العصيبة من تاريخها…
نشكر لكم تحمل أعباء السفر وتقديم قرابة ثلاثين تقريرا ودراسة وشهادة لأعمال المحكمة، نشكر جامعة الاستقلال في أريحا ومعهد العلوم الاجتماعية في بيروت على تفاعلهم البناء، ونشكر أيضا كل من لن ينم جيدا في اليومين القادمين بسبب فارق التوقيت من الأمريكيتين وأستراليا وشرق آسيا.
نحن اليوم نقف أمام منعطف تاريخي، إما استمرار المظالم والجرائم لمنظومة عالمية متهالكة، أو الانتصار للعدالة في وجه التوحش.
وكما قال اليوناني يوما: هذه رودس… فاقفز هنا.