كلمة الدكتورة ريما خلف في افتتاح المحكمة العالمية لفلسطين

Share Post

Last Post

Ctegories

كلمة الدكتورة ريما خلف في افتتاح المحكمة العالمية لفلسطين

To Read In English

كلمة الدكتورة ريما خلف في افتتاح المحكمة العالمية لفلسطين

الأخ الأستاذ هيثم منّاع منسق اللجنة التحضيرية للمحكمة، الأخوة والأخوات الأعزاء

تمنيت لو كان بإمكاني المشاركة معكم في هذا اللقاء الهام، لكن ظرفا طارئا لا سيطرة لي عليه حال دون ذلك. ويحزنني تفويت فرصةٍ فريدة للقاء هذه النخبة المميزة من القضاة والمحامين والمؤرخين والكتّاب، وهذا الجمع الأمين من الشهود على أكبر إبادة جماعية تشهدها البشرية في القرن الحادي والعشرين، إبادة جماعية يقوم بها آخر نظام أبارتايد على سطح البسيطة.

يسعدني أن أرى أن بينكم أصدقاء عملت معهم لعقود في مواجهة الظلم والتهميش والإقصاء، ومن أجل العدالة في فلسطين والمنطقة ومستقبل أكثر إشراقاً للإنسانية كلها. وكنا قد انطلقنا في عملنا من مبادئ عالمية أساسها الحرية والعدالة وحقوق الإنسان للجميع، مبادئ أجمعت عليها شعوب العالم في منتصف القرن الماضي بعد حربين عالميتين راح ضحيتَهما عشراتُ الملايين من الناس. فقُبيل الحربين سادت في العالم قوى ظالمة استندت إلى عِلْم مزيف ينظِّر لتراتبية الأعراق، ولاستعباد الآخر أو حتى لإبادته، فاسترقّت هذه القوى الشعوب ونهبت مواردها بذريعة أنها منتدبة من الله والتاريخ، وأحياناً من عصبة الأمم، بنشر الحضارة بينها. وانتشرت في أوروبا لا سامية بغيضة أدت إلى قتل الملايين من اليهود الأبرياء فقط لكونهم يهودا. وأدى ذلك كله وسواه إلى نشوب الحربين العالميتين اللتين كادتا تفنيان أمما بأسرها. هذا ما تصنعه العنصرية بالأرض والإنسان.

تعلمت البشرية من تاريخها، فوضعت قواعد أخلاقية ونظما قانونية لتتفادى العودة إلى تلك الهاوية، ولتنقذ “الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزاناً يعجز عنها الوصف”. فوقّعت أمم الأرض على مواثيق تُجرِّمُ الاستحواذ على أراضي الغير بالقوة، وجرّمت التمييز بين الناس على أساس العرق أو اللون أو النسب أو الأصل القومي أو الإثني. وأقرّت بأن أي “مذهب للتفوق القائم على التفرقة العنصرية مذهب خاطئ علميا ومشجوب أدبيا وظالم وخطر اجتماعيا”. وبناء عليه قررت البشرية أن جريمة الأبارتايد كجريمة الإبادة الجماعية، كلتاهما جريمة ضد الإنسانية، وأن على جميع دول العالم أن تكافحهما أينما وقعتا.

ما كنا نتخيل أنّ ذلك العالم المعوجّ سيطل برأسه مرة أخرى، أنّ نظام أبارتايد سيتجذر في القرن الحادي والعشرين تحت حماية دول عظمى، وأنه سيقترف جرائم حرب متتالية وجرائم ضد الإنسانية مستهترا بالقانون الدولي دون مساءلة، بل بمَدد وعون وتبرير أخرق من داعميه الذين يرون أنه يحق له ما لا يحق لغيره. لقد تكالبت قوى الشر مرة أخرى، ولكن، ما يدعوني للتفاؤل أن قوى الخير، في المقابل، قد تكاتفت وصعّدت من تصديها للظلم بكل السبل المشروعة حاملة راية العدالة في وجه الطغيان، وراية الحق في وجه التدليس والاختلاق والتضليل.

فها نحن نرى بطولة الشعب الفلسطيني وصموده الأسطوري في وجه عدوان غاشم يستمر لشهره التاسع وجل ضحاياه من المدنيين وخاصة النساء والأطفال. عدوان يستهدف المدارس والمستشفيات وخيم النازحين والأطباء والمسعفين وأساتذة الجامعات. كما نرى حراكا عالميا يجتاح الجامعات والمدن والساحات العامة إدانة للعدوان ودفاعا عن الشعب الفلسطيني وحقه في الحرية والعدالة والمساواة وتقرير المصير. ورأينا دولة مثل جنوب إفريقيا تأخذ المعتدي إلى محكمة العدل الدولية بتهمة الإبادة الجماعية، وقانونيين ومنظماتٍ للمجتمع المدني تجبرُ المدعيَ العام للمحكمة الجنائية الدولية على الإعلان عن سعيه لإصدار أوامر اعتقال بحق قادة العدوان المستمر على الشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق تأتي محكمتكم، أو لنقل منبر أهل الحق والعدالة وصوت من لا صوت لهم، لتعلي قوة القانون فوق قانون القوة.

وما كان صواباً قبل مئة سنة أو ألف يظل صواباً اليوم: مقاومة الظلم ليست حماية للمظلوم فحسب، بل حماية لجميع الناس، على اختلاف الأزمنة والأمكنة؛ وإن سمح القانون، أو القائمون على القانون، بالجريمة، فلن تلبث الجريمة أن تصبح هي القانون، فتعود البشرية، كما ذكرت في بداية هذه الكلمة، إلى وحشية حروب عالمية لم يمرر قرن على نجاتها منها وكادت أن لا تنجو.

أتمنى لكم التوفيق في مسعاكم لتحقيق التشبيك المدني الواسع والتنسيق بين مختلف الطاقات البناءة والخلاقة، للدفاع عن القضية الفلسطينية، والتي جعلت منها المقاومة الأسطورية للأطفال والنساء، وصمود هذا الشعب بأكمله في وجه الإبادة الجماعية المعلنة، القضية الفيصل بين معسكر العدالة ومعسكر الجريمة. وآمل أن تتوصلوا إلى تشكيل هيئات دائمة للملاحقات القانونية والرقابة على المحاكم الدولية والإقليمية والوطنية لإقامة العدالة، ومحاسبة قوى الإجرام والتوحش. وحده الإفلات من العقاب يسمح للمجرم بالإيغال في جرائمه.

سلامي لكل الأصدقاء مع صادق تمنياتي للقائكم بالنجاح في تحقيق أهدافه السامية والنبيلة.

ريما خلف، 31/5/2024

Scroll to Top